الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة من روائع قسم «نظرة ما» بمهرجان كان ومفاجآتها السارة: «الورشة» و«حياة ضيقة»

نشر في  27 ماي 2017  (17:41)

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

منذ سنوات كانت الأقسام الموازية أهم من المسابقة الرسمية من حيث القيمة الفنية، سواء في البرنامج الرسمي أو في أسبوعي المخرجين وأسبوع النقاد، فهناك وجدنا أجمل الأعمال.

 بالنسبة إلى « نظرة ما »، وهو قسم تابع للبرنامج الرسمي للمهرجان وله لجنة تحكيمه الخاصّة، يمكن العثور على بعض الروائع التي لا نظير لها في المسابقة الرسمية.

لنخصّ بالذكر، إلى جانب شريط كريم الموساوي الذي كنا ذكرنا مزاياه في مقال سابق، فلم « الورشة » لوران كانتي. الأمر لا يُـستغرب من المخرج الفرنسي الذي كان تحصل فلمُه « بين الجدران » على السعفة الذهبية سنة 2008.

عُرف كانتي بتناوله للقضايا الإجتماعية الحارقة في فرنسا وبالخصوص تلك المتعلقة بالتحولات الناتجة عن الهجرة من خلال ما يجري داخل المؤسسات التربوية. لم يَحد هذه السّنة كانتي عن هواجسه السابقة بل زاد تعمقا فيها.

يصوّر الفلم ورشة للكتابة الأدبية متكونة من تلاميذ معهد في مدينة لاسيوتا في جنوب فرنسا، تنشطها روائية مشهورة. الإطار يسمح بتمثيل المجتمع الفرنسي بفصائله المتنوعة، وذلك مافعله كانتي: تتكون الورشة من مجموعة تلاميذ يمثلون شرائح اجتماعية وفكرية مختلفة: التقدمي والمحافظ، المسلم والمسيحي، الفرنسي من أصل أجنبي والفرنسي من أصل أروبي، الأبيض والأسمر والأسود، فتيات وفتيان إلخ… وهي مخاطرة في الواقع، فالتمثيلية يمكن أن تشكل عائقا قد ينزلق بالعمل الفنّي نحو الرسالة السوسيولوجية البعيدة عن الإبداع.

لكن عمق نظرة كانتي السينمائية مكّـنته من الإبتعاد عن التوصيف السطحي أو الإدانة المتسرعة. أولا، أولى الجانب الإنساني العاطفي عناية جديرة به في الفلم، وتمحور أساسا حول علاقة الروائية بأحد الشبان، وهو أقربُهم للفاشية والعنصرية.

وجاهة الإختيار تتمثل في ما يسمح به من رصد دقيق ومعمّـق لنفسية هذا الشاب والدوافع الخفية التي جعلته يميل إلى التطرف. ثانيا، تكمن قوة العمل من ناحية أخري في التعامل مع الخطابات المختلفة، فلم يغلّـب المخرج خطابا على حساب خطاب آخر بل ترك للجميع فرصة التحدث، فكان الفلم فضاء واسعا للجدل وتبادل الأراء مما وفّـر للمشاهد مساحة كبيرة لإدراك مدى عمق الموعضوع وتعقده بعيدا عن الإثارة والسطحية التي تتسم بها وسائل الإعلام في التطرق لمثل هذة القضايا.

 

ويُمكن - بل يجبب - كذلك ذكر « حياة ضيقة » للمخرج كنتيمير بالاغوف، وهو شاب عمره لا يتجاوز 26 سنة. تدور أحداث الشريط في مدينة نالتشيك عاصمة جمهورية قبردينو-بلقاريا التابعة للفدرالية الروسية والتي توجد في شمال القفقاس.

في بداية الفلم يقدم المخرج نفسه على أنه قبرديني (وهي طائفة مسلمة سنية في أغلبها) تجنبا لسوء الفهم، لأن قمبردينو-بلقاريا يضم العديد من المجموعات الإثنية والديانات. اشتغل على فلمه تحت اشراف السينمائي الكبير سوكوروف الذي كان له دور في انتاج العمل.

يروي الفلم بتفرّد نادر ورشاقة فائقة قصّة فتاة من عائلة يهودية تعيش في ظروف مادّية متواضعة جدّا، تعين أبيها على اصلاح السيارات. يتم خطف أخيها من قبل عصابة من المجرمين فيلتجئ الأب إلى أحد أغنياء الطائفة لمساعدته على توفير مبلغ الفدية، يقبل الثري مدّ يد الإعانة على شرط أن تتزوج النا بابنه.

من هنا يبدأ صراع الفتاة ضد قسوة المجتمع. أهمية الفلم لا تكمن في الموضوع فقط (وان كانت جملة المعلومات الذي يقدمها الفلم حول هذا البلد الصغير لا تقل أهمية) ولكن خاصة في الطريقة السينمائية التي تواخاها المخرج الشاب للتعبير عن وطأة الوضع الإجتماعي والسياسي في بلده.

مرّة أخرى كانت « دراسة » المجتمع بعيدة كل البعد عن المزايدة في وصف البؤس أو الإلحاح الدرامي ولكن في استعماله للأساليب السينمائية من أضواء وتأطير ومونطاج كان في خدمة الموضوع لا تقعرا ولا اعتباطا. وما زاد في أهمية الفلم وقوته هو الأداء المدهش للممثلة داريا جوفنير. فلم يستحق في رأيي أكثر من جائزة.